أمنوس . ما : بقلم – محمد يويو
يشيع في الخطاب العام خلطٌ واسع بين مفهوم الليبرالية
والتحلل من القيم، وكأن الدعوة إلى الحرية الفردية تعني الانفصال عن الضوابط الدينية أو الأخلاقية.
غير أن قراءةً متأنية للقرآن الكريم تظهر أن الإسلام في جوهره يكرّس الحرية المسؤولة، ويمنح الإنسان كرامة الاختيار، مع تحميله مسؤولية ما يختار.
من هنا ينبع مفهوم الليبرالية المحافظة: رؤية فكرية تؤمن بالحرية والكرامة والعدالة، لكنها تربطها بالإيمان والضمير والحدود الإلهية.
1/ الأساس الفلسفي: الحرية عبودية لله وحده
ليست الحرية في التصور الإسلامي انفلاتًا من كل قيد، بل تحرر من عبودية البشر إلى عبودية الله. فالإنسان مخلوق حرّ في قراراته، لكنه مسؤول عن
تبعاتها، كما جاء في قوله تعالى:
_ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
فالآية تُقرّر مبدأ الاختيار، لكنها تذكّر بأن الحق من عند الله، وأن الحرية لا تعني إنكار المسؤولية.
وفي المقابل، يُحذر القرآن من الحرية المنفلتة التي تفقد الإنسان بوصلته:
-ولا تكونو كالذيز نسوا الله فأنساهم أنفسهم- الحشر-
فمن نسي الله نسي ذاته، لأن جوهر الإنسان مرتبط بإدراكه لربه.
2/في السياسة: الشورى بديلاً عن الاستبداد
الليبرالية المحافظة تؤمن بمبدأ الاختيار الشعبي والمحاسبة السياسية، وترفض الاستبداد باسم الدين أو التحرر باسم الفوضى.فالشورى في القرآن هي الأساس في إدارة الشأن العام:
-وأمرهم شورى بينهم – الشورى-
إنها تعبير عن إرادة الناس، لا عن هيمنة فئة.وتتوافق الشورى مع روح الديمقراطية الحديثة، مع بقاء المرجعية الأخلاقية والقيمية منضبطة بنصوص الوحي.
3/في الاقتصاد: حرية السوق بعدلٍ ورحمة
يرى هذا الفكر أن الإسلام أقرّ حرية التملك والتجارة والمبادرة الفردية، لكنه ربطها بالعدل الاجتماعي ومنع الاحتكار والاستغلال.فالمال وسيلة للخير، لا غاية للهيمنة.
قال تعالى:
– كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم – الحشر-
ومن هنا توازن الليبرالية بين حرية السوق والتكافل، وبين الربح المشروع والواجب الأخلاقي كالزكاة والصدقة، لضمان اقتصاد إنساني لا يتحول إلى غابة مادية.
4/ في الحرية الفردية: مسؤولية قبل أن تكون حقًا
الحرية في الإسلام ليست مطلقة، بل تُمارَس ضمن حدود لا تضرّ بالآخرين أو تتجاوز القيم العامة. فالفرد حرّ في فكره واختياره، لكنه مسؤول أمام الله عن أفعاله:
– إن السمع و البصر و الفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً – الإسراء-
بهذا المعنى، فإن الليبرالية ترفض فرض الوصاية على العقول، لكنها ترفض أيضًا عبادة الشهوات، لأن الحرية بلا ضمير تفضي إلى فوضى لا إلى كرامة.
5/في المجتمع والأسرة: الأسرة حصن القيم
الأسرة في هذا التصور ليست مؤسسة تقليدية فقط، بل الضمان الأخلاقي لبقاء الحرية نقية من الانحراف.
الليبرالية المحافظة تؤمن بأن العلاقة بين الرجل والمرأة تكامل لا صراع، وأن الحرية الجنسية المنفلتة تهدم جوهر الإنسان.
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً – الإسراء-
الحفاظ على الأسرة إذن هو حفاظ على التوازن بين الحرية والفضيلة.
6/في الفكر والثقافة: العقل خادم للوحي لا بديل عنه
تؤمن الليبرالية بحرية التفكير والتعبير، وترى في الاختلاف ظاهرة طبيعية وسُنّة كونية:
-ولو شاء ربك اجعل الناس أمة واحدة – هود-
لكنها تميّز بين الاختلاف المحمود الذي يثري الفكر، والفتنة الفكرية التي تهدم القيم والمجتمع. فالعقل أداة فهمٍ للوحي، لا بديل عنه.وبذلك، يلتقي الاجتهاد العقلي مع الهدي القرآني دون تناقض.
7/ في القيم والكرامة الإنسانية
الإنسان مكرّم في ذاته، بصرف النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه، لأن الكرامة أصل قرآني:
-ولقد كرمنا بني آدم – الإسراء-
وتتحقق الكرامة الحقيقية حين يكون الإنسان حرًّا من الخضوع للطغيان أو للشهوة أو للجماعة، عبدًا لله وحده.
ومن هنا يتأسس المبدأ المركزي للليبرالية :
الحرية لله، والكرامة للإنسان والعدل بين الناس
8/في العلاقة مع الله: الحرية غايتها التقوى
في النهاية، لا معنى لكل حرية إذا فقدت بوصلة الغاية.
الغاية في الفكر الإسلامي هي رضا الله وتحقيق العبودية له عن وعيٍ واختيار:
– أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا – المؤمنون-
إن أكرمكم عند الله أتقاكم – الحجرات-
فالحرية في الإسلام لا تُقاس بمدى الانفلات، بل بمدى الوعي والمسؤولية والتقوى.
(خاتمة)
إن الليبرالية المحافظة ليست مشروعًا سياسياً فحسب، بل مشروع إنساني متوازن يعيد للحرية معناها الحقيقي:
حرية ترتكز على القيم، وتنفتح على العقل، وتخضع للحق.
إنها دعوة إلى أن يكون الإنسان حرًا ومسؤولًا ومؤمنًا في آنٍ واحد؛ حرًّا في اختياره،مسؤولًا في سلوكه، ومؤمنًا بأن كل حرية بلا ضابط روحي هي عبودية خفية لهوى النفس.
Add a Comment